كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا}..
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة.
فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح- والمعاملة بالمعروف- وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة- وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء..
{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}..
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! فهذا هو الإمساك بغير إحسان. إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام. وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق؛ لأنه فيما يبدو كان شائعاً في البيئة العربية: ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم يهذبها الإسلام، ولم يرفعها الإيمان..
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله، وشعور الخوف منه في آن. ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه:
{ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزواً واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}..
إن الذي يمسك المطلقة ضراراً واعتداء يظلم نفسه فهي أخته. من نفسه. فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه. وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى.
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعباً بالرخص التي جعلها الله متنفساً وصمام أمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك المراة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئاً من هذا فقد اتخذ آيات الله هزواً- وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد. ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام- وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله.
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة. وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة..
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم، هو وجودهم ذاته كأمة.. فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام؟ أنهم لم يكونوا شيئاً مذكوراً. لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم. كانوا فرقاً ومزقاً لا وزن لها ولا قيمة. لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به. بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم. لم يكن لديهم شيء على الإطلاق.
لا مادي ولا معنوي.. كانوا فقراء يعيشون في شظف. إلا قلة منهم تعيش في ترف، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير. عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة. وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود. واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة، والثارات الحادة، واللهو والشراب والقمار، والمتاع الساذج الصغير على كل حال!
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام. بل أنشأهم إنشاء. أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها. أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية. أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة. وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجوداً بين الأمم والدول، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود. وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حساباً، وكانوا قبلها خدماً للإمبراطوريات من حولهم، أو مهملين لا يحس بهم أحد. وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة.. وأكثر من هذا أعطاهم السلام، سلام النفس. وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه. أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق.. وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين..
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئاً حاضراً في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر. وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد. وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. والقرآن يقول لهم: {وما أنزل عليكم}.. بضمير المخاطب؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة..
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم:
{واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}..
فيستجيش شعور الخوف والحذر، بعد شعور الحياء والشكر.. ويأخذ النفس من أقطارها، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل..
كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة- حين توفي العدة- ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف:
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف}..
وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار، أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة لم يراجعها، حتى انقضت عدتها؛ فهويها وهويته؛ ثم خطبها مع الخطاب.
فقال له: يا لكع ابن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} إلى قوله: {وأنتم لا تعلمون}.. فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة. ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك..
وهذه الاستجابة الحانية من الله- سبحانه- لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده.. أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال.
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير:
{ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب. حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع.. والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر. لنفسه وللمجتمع من حوله. ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق..
والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق..
إن دستور الأسرة لابد أن يتضمن بياناً عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق. علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه، وارتبط كلاهما به؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لابد لها من ضمانات دقيقة مفصلة، تستوفي كل حالة من الحالات:
{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}..
إن على الوالدة المطلقة واجباً تجاه طفلها الرضيع. واجباً يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير. إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه.
فالله أولى بالناس من أنفسهم، وأبر منهم وأرحم من والديهم. والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.. {لمن أراد أن يتم الرضاعة} وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نمواً سليماً من الوجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم. فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده. وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية.
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل: أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة؛ فكلاهما شريك في التبعة؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته:
{لا تكلف نفس إلا وسعها}..
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سبباً لمضارة الآخر:
{لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده}..
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل. ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها..
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد:
{وعلى الوارث مثل ذلك}..
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى. تحقيقاً للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث.
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده. فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات.
وعندما يستوفى هذا الاحتياط.. يعود إلى استكمال حالات الرضاعة..
{فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما}..
فإذا شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته.
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعاً مأجورة، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها، وأن يحسن معاملتها:
{وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}..
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة، وله راعية وواعية.
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي.. بالتقوى.. بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به:
{واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}..
فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية. وهذا هو الضمان الوحيد.
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها.
عدتها. وخطبتها بعد انقضاء العدة. والتعريض بالخطبة في أثنائها:
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير}.
{ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}..
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.. وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكاناً رديئاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة: حمار أو شاة... إلخ.. فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت، بل رفعه كله عن كاهلها؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده.. وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة. جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال- ما لم تكن حاملاً فعدتها عدة الحامل- وهي أطول قليلاً من عدة المطلقة. تستبرئ فيها رحمها، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها. وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب. فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها. سواء من أهلها أو من أهل الزوج. ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي. لا تقف في سبيلها عادة بالية، ولا كبرياء زائفة. وليس عليها من رقيب إلا الله:
{والله بما تعملون خبير}..
هذا شأن المرأة.. ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة؛ فيوجههم توجيهاً قائماً على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح: